عندما وصف هيرودوت مصر بأنها هبة النيل كان بلا شك يشير إلي ذلك النهر المتدفق بالعطاء الذي استقر المصريون القدماء علي ضفتيه وبنوا حضارة إنسانية عظيمة. ولا أعتقد شخصيا أنه كان يقصد أن الفضل فيما وصل إليه المصريون القدماء من علوم وفنون سبقوا بها الأمم القديمة كلها إلي نهر النيل, فالنيل يمر علي بلاد إفريقية عديدة بل وينبع فيها قبل أن يصل ويفيض علي أرض مصر, وعلي الرغم من ذلك لا نجد حضارة يمكن مقارنتها بحضارة الفراعنة; إذن فالشخصية المصرية هي من شيدت تلك الحضارة مستغلة كل الإمكانات الطبيعية التي توافرت لها علي أرض مصر. وإذا كان الكثيرون قد كتبوا عن نهر النيل وفضله علي حضارة مصر القديمة, فإن القليل من العلماء والباحثين هو من ذكر فضل الحجر الذي توافر للمصري القديم واستغله في تشييد حضارته. وهب الله أرض مصر تنوعا ثريا لا مثيل له في الأحجار التي توافرت بأرضها, ولا يمكن حصر كل أنواعها في مقال واحد, وكان سيد هذه الأحجار جميعا هو الحجر الجيري الذي إليه يرجع الفضل في بقاء أروع المنشآت الجنائزية والدينية من مقابر وأهرامات ومعابد, هذا الحجر يتوافر في أرض مصر كلها شمالا وجنوبا مع وجود اختلافات جوهرية في تماسك حبيباته وصلابته ولونه, ويطلق عليه الحجر الجيري المحلي الذي استغله المصري في بناء جسم المنشأة ثم كسائه بأحجار أخري عديدة مثل الحجر الجرانيت الوردي, أو الجرانيت الأسود, وكذلك البازلت, وهناك في محاجر المعصرة بطره يوجد محجر الحجر الجيري الجيد, وهو من أجود أنواع الحجر ويتميز بلونه الأبيض الناصع, وكذلك الأبيض المائل للاصفرار وإلي جانب استغلال المصري القديم لهذا الحجر بالذات في أعمال الكساء لمنشآته المعمارية المشيدة بالحجر المحلي, فلقد استغله أيضا في عمل التماثيل والأواني الحجرية, ووصل المصري القديم إلي أقصي درجات التقنية في قطع الأحجار ونحتها واستغلالها أفضل استغلال بحيث يكون الفاقد قليلا جدا من كتلة الحجر المستغلة في نحت التماثيل والأواني, وذلك نظرا للجهد المبذول في قطع الحجر ونقله سواء إلي موقع العمل عبر النيل أو إلي الورشة لكي يتناوله النحاتون في حالة نحت التماثيل الصغيرة أو متوسطة الحجم. أما في حالة نحت التماثيل الضخمة فكان العمل يتم في المحجر نفسه ويتم نقل التمثال من المحجر إلي موضعه أمام أو داخل المنشأة المعمارية ووضع اللمسات الفنية الأخيرة عليه من ألوان أو تطعيم. وعلي العكس من الحجر الجيري الذي كان العمل فيه يمثل قمة السهولة بالنسبة للفنان المصري القديم كان العمل مع الأحجار الصلدة لاسيما الجرانيت والبازلت عملا في غاية الصعوبة, ويحتاج إلي مهارة وتقنية عالية ومن أطرف النصوص التي تركها المصري القديم, علي جدران مقابره نص يمثل حوارا بين اثنين من النحاتين في أثناء عملهما وكان أحدهما يشتغل بنحت تمثال من الخشب, والآخر يقوم بنحت تمثال من الحجر الذي يشتكي قائلا: مضي وقت طويل وأنا أعمل علي هذا التمثال ولم أنته بعد! فيرد عليه زميله الآخر بقوله: إن العمل في نحت تمثال الخشب ليس كالعمل في نحت تمثال من الحجر. لم يكن الحجر مجرد مادة بناء تتميز بالبقاء فقط; بل كان أيضا يرتبط بالأساطير الدينية والفكر العقائدي عند المصري القديم وكان لكل حجر رمزية خاصة, فالحجر الرملي الأحمر هو حجر عقيدة الشمس ورمز إله الشمس, ولذلك نجد أن معظم تماثيل الملك جدف رع قد نحتت من هذا الحجر, وعلي الرغم من العثور عليها محطمة بشكل يشير إلي عملية انتقام ـ ربما مقصودة أو غير مقصودة ـ فلا تزال هناك رؤوس التماثيل وأجزاء منها التي تعتبر أحد آيات الفن المصري القديم. وكان أفضل محاجر هذا الحجر موجودا بمنطقة الجبل الأحمر وهي غير بعيدة عن مدينة إله الشمس رع في هليوبوليس أو أون القديمة( عين شمس الحالية), وعندما قمت حديثا في منطقة عين شمس بالكشف عن معبد يرجع إلي عصر الملك أخناتون وربما أعيد بناؤه في عصر الملك رمسيس الثاني الذي سلب أخناتون معظم آثاره ومحا اسمه من عليها وجدت العديد من قطع التماثيل المنحوتة من الحجر الرملي. أما عن السبب في ارتباط الشمس بالحجر الرملي الأحمر أو الكوارتزيت فهو تشابه لونه مع لون قرص الشمس عند غروبه وأطلق علي إله الشمس الغاربة اسم آتوم ووصف بأنه إيوف رع أي( لحمة رع) وصور بهيئة الكبش الواقف في مركب الليل مسكتت. أما عن حجر البازلت الأسود فلقد ارتبط ارتباطا وثيقا بعقيدة أوزير حيث إنه يمثل الخصوبة والتربة السوداء وكان من إحدي مهام أوزير أنه إله للزراعة وارتبط بخصوبة الأرض وحيويتها, ونتيجة لذلك استخدم المصري القديم البازلت الأسود في عمل أرضيات المعابد الجنائزية في مجموعات الأهرامات الملكية في الدولتين القديمة والوسطي, وكان من أحب الأحجار إلي المصري القديم لعمل التوابيت وذلك بدءا من الأسرة الخامسة حتي نهاية العصور الفرعونية وخلال عصر الأسرة السادسة كان هو الحجر الملكي الخاص لعمل التوابيت الملكية ونقش أسماء وألقاب الملك وتمثيلا للباب الوهمي علي أسطحه, والرمزية من وراء ذلك معروفة طبعا, وهي أن الملك المدفون في هذا التابوت يأمل في أن يبعث مرة أخري من هذه التربة الخصبة التي يمثلها التابوت بلونه الأسود. ويتم أحيانا الخلط بين الجرانيت الأسود والبازلت خاصة من جانب غير المتخصصين, إلا أن حبيبات الحجر الجرانيتي أكبر حجما وتباعدا من حبيبات الحجر البازلتي. وإلي جانب هذه الأنواع من الأحجار كان الحجر الجرانيتي الأحمر من أكثر الأحجار التي أحبها المصري القديم بل كانت أثمنها جميعا تكبد في سبيل الحصول عليها الكثير من المشاق والجهد حيث كانت محاجرها تقع في أسوان وقد استغلها المصري القديم منذ أقدم عصوره ويرجع أقدم استخدام لها في العمارة علي نطاق واسع إلي عصر الملك خع سخم وي آخر ملوك الأسرة الثانية(2649 قبل الميلاد) حيث قام بتشييد مقصورة ضخمة ونقشها بنقوش دينية تمثل طقوس إنشاء المعبد ولا تزال بقاياها موجودة إلي اليوم ومحفوظة في المتحف المصري بالقاهرة. وفي عصر الملك خوفو قام المهندس المعماري المسئول عن إنشاء هرم الملك بهضبة الجيزة بقطع ألواح ضخمة من هذا الحجر من أسوان ونقلها عبر النيل لكي يقوم بتجليد حجرة الملك وتسقيفها وكذلك إنشاء الحجرات الخمس التي تعلو حجرة الملك, ويصل ثقل الكتلة الحجرية الواحدة إلي نحو40 طنا, ولنا أن نتخيل أنه منذ أكثر من4500 عام استطاع المصري القديم نحت كتل حجرية بهذا الحجم من محاجر أسوان ونقلها إلي ضفة النيل ووضعها علي سفن خشبية لكي تنقل عبر مسافة أكثر من700 كم إلي موضعها في هرم الملك خوفو وعلي ارتفاع أكثر من100 متر فوق الهضبة نفسها؟! إذن فنحن أمام معجزة معمارية بكل المقاييس توضح جانبا آخر من جوانب عظمة الحضارة المصرية القديمة وإبداعها. وإلي جانب استخدام حجر الجرانيت الوردي في البناء استخدم كذلك لنحت الأعمدة المستديرة والمربعة لعل أروع أمثلتها أعمدة المعبد الجنائزي للملك ساحورع ثاني ملوك الأسرة الخامسة بأبو صير التي شكلت علي هيئة النخيل وكانت قمتها التي تمثل سعف النخيل وتفاصيلها الدقيقة سببا في تسابق المتحف المصري ومتحف برلين علي اقتناء هذه الأعمدة ويمكن مشاهدتها بالمتحف المصري بالقاهرة, وقد استغل الفنان المصري القديم جسم العامود في نقش ألقاب وأسماء الملك ساحورع تحرسها اثنان من إلهات مصر الحامية; الإلهة وادجيت بهيئة الثعبان رمز الشمال, والإلهة نخبت بهيئة أنثي العقاب رمز الجنوب. كما استغل حجر الجرانيت الوردي في عمل المسلات الضخمة التي يصل ارتفاع بعضها إلي أكثر من30 مترا. وتسابق ملوك الدولة الحديثة في قطع المسلات ونقش أسمائهم مصحوبة بأدعية خاصة وفي حماية آلهة محددة علي رأسها جميعا الإله آمون رع( سيد الكرنك). هذه المسلات كان يتم نحتها لكي تزين معابد الإله آمون, ولا يزال محجر المسلة الناقصة بأسوان قائما شاهدا علي مدي الجهد الذي كان يبذل لقطع مسلة واحدة واستخلاصها من محجرها والبدء في نقشها ثم نقلها ونصبها, الأمر الذي يكاد يكون مشروعا قوميا تحتفل البلاد كلها بنجاحه. أما عن حجر الألباستر ومحاجره الشهيرة في حتنوب بالمنيا فهي قصة أخري من قصص الحضارة المصرية القديمة, ولعل شهرة محاجر حتنوب ترجع إلي ما تركه رؤساء المحاجر والكتبة المصاحبون للبعثات من نقوش هناك, هذه النقوش تعد وثيقة مهمة علي نمط العمل بالمحاجر وما كان العمال يفكرون في تخليده في أثناء أوقات راحتهم, وتتألف نقوش حتنوب معظمها من أسماء وألقاب رؤساء العمل وأدعية خاصة تركوها لتخليد ذكري وجودهم في هذا المكان الذي كان تحت حماية ربة حتنوب الإلهة حاتحور. وقد استغل المصري القديم الألباستر في العمارة وكذلك في النحت حيث قام بنحت التماثيل والأواني البديعة من هذا الحجر الذي لا يوجد مثيل له في أي مكان بالعالم ولذلك فهو يعرف بأنه الألباستر المصري واستطاع المصري القديم إخراج روائع فنية من التماثيل المنحوتة من هذا الحجر لعل أبدعها جميعا تمثال للملك بيبي الثاني وهو جالس علي ركبتي أمه بكامل ردائه الملكي والتمثال محفوظ بمتحف بروكلين بأمريكا, وفي مجال العمارة استغل المصري القديم الألباستر في عمل الأرضيات البديعة التي تعكس أشعة الشمس فتضيف بهاء وقدسية خاصة علي المكان, وأجمل أمثلتها أرضية معبد الوادي للملك خفرع بالجيزة. ليست هذه هي كل ما استغله المصري القديم من أحجار فهناك أنواع أخري عديدة سيتصل حديثنا عنها في المقال القادم إن شاء الله ومنها حجر الجينيس المعروف باسم ديوريت خفرع, وكذلك أحجار البروفير والدولميت والدولوريت وغيرها.. حقا مصر هي بلد الفراعنة أساتذة الحجر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق